العصبية:
وقـد آمـنـت القـبـيلة بوحدتـها وجعلت ذلك أمراً مقدساً ، ترتب عليه طائفة من التقاليد الاجتماعية ، تحـدد واجـبات الأفراد وحقوقهم وأساس هذه التقاليد هو العصبية ، التي تقضي أن يُنصر الفرد من قبل أفراد قبيلته ظالماً أو مظلوماً.
ولو رجعنا إلى الشعر الجاهلي لوجدنا الكثير منه يصور لنا هذه العصبية دون الاحتكام إلى عقل مستنير ولا هدى أو بصيرة ، لأن التعصب لقبيلته يفوق كل اعتبار.
يقول دريد بن الصمة (24):
أمـرتـهـم أمـري بمـنـعـرج الـلـوى فلم يستبينوا الرشد إلى ضحى الغد
فلما عـصـوني كنت منهم وقد أرى غــوايـتـهـم وأنـنـي غــيـر مـهــتد
ومــا أنــا إلا مـن غـزية إن غــوت غــويــت وإن تـرشـد غـزيــة أرشد
فالشاعر يرى رأي قبيلته غـزيـة ، بل يـتـنازل عن رأيه من أجل رأيها ، ولو كان خطأً.. فغيه وضلاله، وكذلك رشده ترتبط كلها بعشيرته فإن ضلت ضل معها، وأمعن في ضلاله، وإن اهتدت اهتدى معها وأمعن في هداه.
والنابغة الذبياني يعبر عن المعنى نفسه بقوله (25):
حدبت علي بطون ضبة كلها إن ظالـمـاً فـيهم وإن مظلوماً
وعلى الـفـرد أن يحـتـرم رأي قبيلته فلا يخرج عليه ولا يكون سبباً في تمزيق وحدتها أو الإساءة إلى سمعتها بين القبائل أو تحميلها ما لا تطيق ، ولذلك اتخذت القبيلة حق الخلع أي الطرد لبعض أفـرادهــا إذا تمردوا على تقاليدها من قتل بعض أفرادها أو تعدد جرائره عليها أو سوء سلوكه من الناحية الخلقية حسب مفاهيمهم للأخلاق آنذاك ، ويعتبر الخلع أشد عقوبة توجه للفرد في المجتمع البدوي (26).
شيخ القبيلة:
فجناية كل فرد من أفراد القبيلة جناية المجموع يعصبونها برأس سيد العشيرة ولهم عليه أن يتحمل تبعاتها وله عليهم أن يطيعوه فيما يأمرهم به ، وشيخ القبيلة يكون عادة شيخاً مجرباً هو سيدها له حـكـمـة وســداد رأي وسـعـة في الثروة.. وهو الذي يقودها في حروبها ويقسم غنائمها ، ويستقبل وفود القبائل الأخري ، ويـعـقــد الصـلـح والمحـالـفـات ويقيم الضيافات ، وسيادته رمزية وإذا بغى كان جزاؤه جزاء كليب التغلبي عندما بـغـى وطـغى على أحلافه من قبيلة بكر فقتلوه مما كان سبباً في نشوب حرب البسوس المشهورة.
ولا بد من توفر صفات في شيخ العشيرة وقائدها ، كالشجاعة والحسب والكرم والـنـجدة وحفظ الجوار وإعانة المعوز ولابد أن يتحمل أكبر قسط من جرائر القبيلة وما تدفـعــه من ديات ، وغالباً يرث الشيخ سيادته عن آبائه (27) ، وإلى ذلك يشير معاوية بن مالك سيد بني كلاب وهو الملقب (بمعِّود الحكماء) حيث يقول (28):
إني امـرؤ من عـصـبة مشهورة حشد ، لهم مجد أشم تليد
ألـفوا أباهم سـيـداً وأعـانــهـم كــرم وأعــمام لهم وجـدود
نعطي العشيرة حقها وحقيقها فيها ، وتغفر ذنبها وتسود
وإذا تحـمـلـنـا العـشيرة ثقلها قـمـنا به ، وإذا تعود نعود
ويقول عبد الله بن عنمة وكان حليفاً لبني شيبان يرثي بسطام بن قيس سـيـد بنـي شيبان ويذكر أعلام رياسته وقيادته (29):
لك المرباع منها والصـفايا وحكمك والنشيطة والفضول
والمرباع هو ربع الغنيمة كان الرئيس يأخذه في الجاهلية ، والصفايا جمع صـفـيـة وهي ما كان يصطفيه الرئيس لنفسه من خيار الغنيمة ، والنشيطة ما أصابه الجيش في طـريـقه قبل الـغـارة مـن فـرس أو نـاقــة، والفضول ما فضل فلم ينقسم نحو الإداوة والسكين والنوعان الأخيران قد سقطا في الإسلام.
الاعتزاز بالأنساب والقوة:
ولـقـد آمـنـت القبيلة بوحدة جنسها - أي وحدة الدم - فهم جنس ممتاز لا تفضلهم قبيلة أخرى ، وهـم يفـضلون كل القبائل آباؤهم أشرف آباء وأمهاتهم أكرم أمهات ، وهم أجدر الناس أن يكونوا خـير الـنـاس، ولـعـل هـذا مـا يـفـسر لنا تلك المنافرات التي امتلأت بها أخبار العصر الجاهلي ، وذلك الفخر الذي تدوي أصداؤه في قصائد شعرائه (30).
ولعل مـعـلـقـة عمرو بن كلثوم خير ما يمثل الاعتزاز بالنسب ، والفخر بالآباء ، والأجداد (31) حيث يقول:
1- ورثت مهلهلاً (32) والخير منه زهــيراً نعم ذخر الذاخرينا
2- وعـتـاباً وكـلــثـوماً جـمـيــعــــاً بـهـم نـلـنا تراث الأكرمينا
3- ومـنـا قـبـلـه الـسـاعـي كـلـيـب فـأي المـجـد إلا قـد ولـيـنـا
ثم يعتز بقوة قبيلته وعزتها وجبروتها فيقول:
4- ونحـن الحاكـمـون إذا أطـعـنا ونحن العازمـون إذا عُصـيـنا
5- ونـحـن الـتـاركـون لـما سخطنا ونـحـن الآخذون لما رضـيـنـا
6- وأنـا الـمــنــعـمـون إذا قـدرنـا وأنـا المـهـلـكـون إذا أتــيـنـا
7- وأنـا الـشــاربـون المـاء صـفــواً ويـشـرب غيرنا كدراً وطـيـنـاً
وإلى أن ينسى الشاعر نفسه ويتصور أنهم ملوك الدنيا المتصرفون الباطشون بلا رادع حيث يقول:
8- لـنـا الـدنـيـا ومـن أضـحـى عليها ونبطش حيث نبطش قادرينا
9- إذا ما المـلـك سـام الناس خـسـفـاً أبـيـنا أن نـقـر الخـسف فينا
والمـعـلـقـة كـلـهـا ضـجـيـج وصياح وهياج وإزباد يتجاوز حدود العقل إلا أنها الجاهلية المتغطرسة، انظر إليه حيث يقول:
10 - إذا بـلـغ الفـطـام لـنـا صـبـي تـخـر له الجـبـابر ساجـدينا
11 - مـلأنا البر حـتـى ضـاق عنا وظــهـر البـحـر نملؤه سفينا
12- ألا لا يـجـهلـن أحـد عـلـينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
فالشاعر يفتخر بكثرة عدد عشيرته حتى ملأ أفرادها وجه الأرض وضاق البحر بسفنهم؟!، وطفلهم إذا بلغ الفطام انحنى له الجبابرة سجوداً ومذلة.
والـشـواهـد كـثـيرة نختار منها بعض النماذج لإعطاء صورة واضحة عن جبروت الجاهلية وغطرستها.
فالمرقش الأكبر يفتخر بكثرة عدد قومه من بني بكر بن وائل إذ يقول (33):
هــلا سـألـت بنا فوارس وائل فلنحن أسرعها إلى أعدائها
ولنحن أكثرها إذا عد الحصى ولنا فواضلها ومجدُ لوائها
ثم يفـتـخـر بـقـوة قـومـه في الحـروب ، فهم شعث الرؤوس لانهماكهم في القتال أجود ذوو مروءة ، وأن ناديهم خير ناد وأشرفه فيقول (34):
شعث مقادمنا نهبى مراجلنا نأســو بأمـوالـنا آثار أيدينا
الـمـطـعمون إذا هبت شآمية وخير ناد رآه الناس نادينا
فهم أصحاب حروب وقرى.
وللموضوع تتمة