الثورة الفرنسية.. في الميزان
تعتبر الثورة الفرنسية التي انطلقت شرارتها الأولى في العام (1204هـ = 1789م) من أهم الأحداث ليس في تاريخ فرنسا فحسب بل في تاريخ أوروبا كلها، وثمة عوامل تضافرت مجتمعة في فرنسا أدت إلى حدوث هذه الثورة يمكن التعرف عليها من خلال إطلالة سريعة على أحوال فرنسا قبيل العام (1789م = 1204هـ).
على صعيد الأحوال الاجتماعية والسياسية كانت فرنسا تعيش حالة من الاستقرار النسبي في ظل حكم لويس الرابع عشر الذي اهتم بالفنون والآداب ونال حب الشعب واحترامه، ولكن بعد وفاته، وانتقال العرش إلى رجال أقل منه شأنًا، بدأ العبء ينزلق تدريجيًا عن كاهل الملك ووزرائه إلى كاهل الطبقة المتوسطة (البرجوازية) التي كانت قد بدأت تبرز للوجود، وبخاصة في عهد لويس السادس عشر الذي اتسم بضعف الشخصية، والذي قامت في عهده الثورة وتم إعدامه فيها في (8 جمادى الآخرة 1207هـ = 21 يناير 1793م)، وكان أفراد هذه الطبقة المتوسطة في معظمهم متعلمين وميسوري الحال، ومن ثم بدءوا يشعرون بعدم الرضا عن المكانة الدنيا التي يحتلونها بالقياس إلى طبقة النبلاء، وأصحاب المقام الرفيع في الكنيسة. فكان تذمرهم وتمردهم على هذه الأوضاع من العوامل التي أشعلت فتيل الثورة بالتحالف مع العامة أو من يسمونهم بالطبقة الثالثة التي كانت ترزح في أوضاع سيئة في ظل النظام الإقطاعي السائد آنذاك.
أما عن الأحوال الاقتصادية فقد بلغت غاية السوء للدرجة التي لم تستطع فيها الحكومة أن توفر للشعب الغذاء الكافي، وكان ذلك نتيجة الحروب الطويلة، والبذخ على المستويين العام والخاص، وضعف الملوك وعجز الوزراء عن التمسك بالسياسات الموحدة، كل هذا أدى إلى حالة من الفوضى الاقتصادية في البلاد، ولم يستطع أحد علاجها حتى تفاقمت الديون على فرنسا.
اجتماع مجلس طبقات الأمة
بعد أن ساءت الأحوال الاقتصادية، وزادت الضرائب المفروضة قرر الملك عقد مجلس الطبقات في (1204هـ = 5 مايو 1789م) الذي جاء على هوى الطبقة الأرستقراطية. فقد كانت التقاليد تقضي بأن يتألف المجلس من ثلاث هيئات منتخبة تمثل إحداها "الإقليدوس" (الملك- الكنيسة)، وتمثل الثانية "النبلاء"، والثالثة تمثل "الشعب". وكان الاقتراع يتم على هيئة ثلاث وحدات منفصلة وليس طبقًا لعدد الأعضاء. وحيث كانت طبقة رجال الكنيسة خاضعة لسيطرة النبلاء الذين يتقلدون المناصب الرفيعة في الكنيسة لقاء الخدمات التي يقدمونها، فقد كانت الطبقتان الأوليان على يقين دائم من الحصول على أغلبية الأصوات، وبالتالي يقوم أبناء الطبقة الثالثة –الشعب- بتحمل عبء الضرائب المفروضة وحدهم. وقد فطن أبناء هذه الطبقة لهذا الأمر، وطالبوا بأن يكون التصويت في المجلس طبقًا لعدد الأعضاء لا طبقًا للطبقة، ثم طالبوا بأن يكون للمجلس السلطة في تنفيذ المشاريع. وطالب الشعب في أول الأمر بأن يجتمع المجلس في قاعة واحدة، وكل هذه الإجراءات سعى العامة لتحقيقها لكي يحصلوا على الأغلبية بمن ينضم إليهم ممن يعطفون عليهم وعلى حركتهم من رجال الدين والأشراف الذين كانوا يريدون انضمامهم إلى العامة ليكون لهم القيادة والنفوذ.
وقبل ذلك كان المجلس يجتمع ويعرض الملك عليه آراءه ثم ينصرف أعضاؤه إلى مدنهم قانعين. ولكن هذا المجلس طالب بأن المسائل التي تعرض عليهم يجب تنفيذها وألا يُفضّ المجلس بل يبقى بجانب الملك. أصر نواب العامة على تنفيذ مطالبهم التي رفضها الملك؛ فأضربوا عن دفع الضرائب، وكلما مر الوقت ازداد رجال العامة قوة بمن ينضم إليهم من أشراف ورجال الدين، وكلما زادت قوتهم تشددوا في مطالبهم.
وفي ذلك الوقت يظهر بين طبقة العامة نائب يدعى (سييس) وهو من رجال الدين الذين تولوا البحث في الدستور، وأعلن أنه إذا رفضت طبقة الأشراف ورجال الدين الانضمام إليهم فسيعلنون أنفسهم نوابًا للشعب ويطلقون على أنفسهم الجمعية الوطنية، وقد ووفق على هذا الاقتراح في (3 من شوال 1204هـ = 16 يونيو 1789م) ولكن الملك لم يوافق على اجتماع الطبقات في قاعة واحدة، وأصر نواب العامة على مطلبهم فاضطر الملك مرغمًا إلى الموافقة، ورأى رجال الجمعية الوطنية أن يضعوا دستورًا للدولة.
وتوالت بعد ذلك الأحداث حتى نجح الثوار في إسقاط سجن الباستيل رمز الطغيان في (2 من ذي القعدة 1204هـ = 14 يوليه 1789م) وبسقوطه زادت قوة الثوار حتى أصدروا الدستور الجديد الذي اتخذ من الحرية والإخاء والمساواة قواعد انطلق منها إعلان حقوق الإنسان والمواطن في (15 من ذي الحجة 1204هـ = 26 أغسطس 1789م) ثم إعلان الجمهورية وإلغاء الملكية في (5 من صفر 1207هـ = 22 سبتمبر 1892م). وقد سبق إعلان الجمهورية سجن لويس السادس عشر في (24 من ذي الحجة عام 1206هـ = 13 أغسطس 1792م) ثم إعدامه في (8 من جمادى الآخرة 1207هـ = 21 من يناير 1893م)، ثم إعدام زوجته "ماري أنطوانيت" في (10 من ربيع الأول 1408هـ = 16 أكتوبر 1793م).
شعارات الثورة في الميزان
اتخذت الثورة الفرنسية مبادئها من أفكار الفلاسفة: "جان جاك روسو" و"فولتير" و"مونتسكيه"، ورفعت عبارة: (الحرية – الإخاء – المساواة) كشعار لها، ولكن إلى أي مدى التزمت الثورة بهذا الشعار سواء على صعيد الداخل الفرنسي إبان الثورة أو على صعيد سياسة حكومتها الخارجية فيما بعد؟
يعلق "روبرت دارنتون" أستاذ تاريخ أوروبا الحديث في جامعة "برنستون" في ذكرى احتفال فرنسا بمرور مائتي عام على قيام الثورة الفرنسية قائلاً: إذا كانت فرنسا تحتفل بمرور مائتي عام على سقوط الباستيل، وإزالة الإقطاع، وإعلان حقوق الإنسان والمواطن، فإن الوضع في فرنسا في الفترة التي قامت فيها الثورة لم يكن في حقيقة الأمر على كل ذلك القدر من السوء كما يعتقد الكثيرون. فالباستيل كان خاليًا تقريبًا من السجناء وقت الهجوم عليه يوم (14 يوليو 1789م = 2 من ذي القعدة 1402هـ) كما أن الإقامة فيه لم تكن سيئة تمامًا كما يتصور الناس، ولكن ذلك لم يمنع الثوار من أن يقتلوا مدير السجن لا لشيء إلا لأنه من النبلاء، ثم طافوا بعد ذلك بجثته في الشوارع. كذلك كان الإقطاع قد انتهى بالفعل وقت أن أعلنت الثورة إلغاءه أو لم يكن على الأقل موجودا بمثل تلك الدرجة الفاحشة.
ويضيف قائلاً: وإذا كانت الثورة قد أعلنت حقوق الإنسان والمواطن فإنها لم تلبث أن أهدرت هذه الحقوق بما ارتكبته من جرائم ومذابح وموجات إرهاب اجتاحت فرنسا كلها بعد 5 سنوات فقط من إعلان تلك الحقوق لدرجة أن بعض المؤرخين البريطانيين مثل "ألفريد كوبان" كان يصف هذه الإعلانات (حقوق الإنسان والمواطن) بأنها مجرد أسطورة.
ويقول المؤرخ الفرنسي "بيير كارون" الذي أصدر عام (1354هـ = 1935م) كتابًا عن المذابح التي حدثت في السجون الباريسية إبان عهد الثورة في (15 من محرم 1207هـ= 2 سبتمبر 1792م).. يقول عن هذه المذابح: إن هذه المذابح كان لها طابع (شعائري) جارف، وقد بدأت بالهجوم على بعض السجون بزعم القضاء على بعض المؤامرات التي كانت تدبر فيها للإطاحة بالثورة، وأقام "الدهماء" من أنفسهم محكمين وقضاة ومحلفين في فناء هذه السجون، حيث كان السجناء يقدمون للمحاكمة واحدًا بعد الآخر فتوجه إليهم التهم ويحكم لهم أو عليهم ليس تبعًا للأدلة والشواهد؛ وإنما تبعًا لمظهرهم العام وسلوكهم وشخصيتهم بل وتكوينهم الجسدي. كما كان أي تردد أو أي اضطراب يظهر على الشخص يعد دليلاً للإدانة وعلى ثبوت التهمة فيحكم عليه بالإعدام، وكان الذي يتولى المحاكمة وإصدار الحكم شخصًا عاديًا، كما كانت أحكامه تقابل بالتصفيق والصياح من الجماهير الذين تجمعوا من الشوارع المحيطة وأصبحوا بمثابة محلفين، وكان الشخص الذي يحكم ببراءته يؤخذ بالأحضان والتهنئة والقبلات ويطوفون به الشوارع، بينما كان الشخص الذي يحكم عليه بالإدانة يتم إعدامه طعنًا بالخناجر والسيوف وضربه بالهراوات الثقيلة ثم تنزع عنه ملابسه ويلقى بجسده فوق كومة من أجساد الذين سبقوه.
والغريب أن الذين كانوا يقترفون هذه المذابح كانوا يرتكبونها باسم الحرية وحقوق الإنسان و(المواطن والعدالة والمساواة)!
منبع الإرهاب!
أما "سيرجو بوسكيرو" رئيس الحركة الملكية الإيطالية فيقول: إن الثورة الفرنسية كانت عبارة عن حركة معادية للشعب الفرنسي إبان قيامها، كما أن أسطورة السيطرة الشعبية على سجن الباستيل لم تكن سوى عملية سطو على مخزن الأسلحة في الباستيل الذي كان يستضيف 7 مساجين فقط، منهم 3 مجانين.
ويضيف قائلاً: إن الثورة الفرنسية بحق قامت بأكبر مجزرة في التاريخ أو على الأقل في الشعب الفرنسي، حيث قتلت 300 ألف فلاح، وهي بذلك تعد منبع الإرهاب العالمي؛ إذ ولدت "ظاهرة الإرهاب" من الثورة الفرنسية.
حرية أم عبودية؟
أما على صعيد السياسة الخارجية التي انتهجتها حكومات الثورة الفرنسية فقد جاءت متناقضة تمامًا مع ما أعلنته الثروة من مبادئ (الحرية والإخاء والمساواة) وبخاصة فيما يتعلق بشعوب آسيا وإفريقيا التي استعمرتها والتي تعاملت معها بمنطق السيد والعبد. ولم تمضِ فترة وجيزة من الزمن حتى جاءت الحملة الفرنسية على مصر عام (1213هـ = 1789م)، ثم بعدها بفترة جاء الاحتلال الفرنسي للجزائر والمغرب وتونس وغيرها من المناطق في آسيا وإفريقيا.
ومما يؤكد أسطورية المبادئ التي رفعتها الثورة الفرنسية من الحرية والإخاء والمساواة إلقاء نظرة سريعة على بعض أفكار الفيلسوف الفرنسي "مونتسكيه" الذي قامت الثورة على مبادئه وأفكاره، وفي ذلك تقول الدكتورة "زينب عصمت راشد" أستاذة التاريخ الحديث بجامعة عين شمس: إنه ليؤسفنا حقًا أن ينخدع العالم بوجود مفكرين راشدين بين من زعموا أنهم ثاروا لدعوة الحق والحرية والعدالة والإخاء والمساواة، وفيهم من استحل ظلم الإنسان لأخيه الإنسان لا لشيء سوى بشرته. ويعد مونتسكيه أشهر الأمثلة على ذلك، وهو من أئمة التشريع في الثورة الفرنسية، وصاحب كتاب "روح القوانين"، إذ يقول في تبرير استرقاق البيض للسود كلامًا لا يمكن صدوره من عقل مفكر، يقول مونتسكيه في بعض عباراته: "لو طلب مني تبرير حقنا المكتسب في استرقاق السود لقلت إن شعوب أوروبا بعد أن أفنت سكان أمريكا الأصليين لم تر بدًا من استرقاق السود في إفريقيا لتسخيرهم في استغلال تلك البقاع الواسعة، ولولا استغلالهم في زراعة هذه الأرض للحصول على السكر لارتفع ثمنه".
وتمضي د. زينب قائلة: يقول مونتسكيه مبررًا جرائم الاستعمار الأوروبي ما يأتي: "أولئك الذين سخروا في هذا العمل ليسوا غير أقوام من السود، فطس الأنوف لا يستحقون شيئًا من رحمة أو رشاد".
ويقول: "إنه لا يتصور مطلقًا أن الله بحكمته السامية قد وضع في تلك الكائنات السود أرواحًا يمكن أن تكون طيبة".
الثورة الفرنسية والمشرق الإسلامي
لم يحدث أن سمع المشرق العربي الإسلامي عن الثورة الفرنسية ومبادئها إلا مع قدوم نابليون بونابرت على رأس حملته على مصر للاستيلاء عليها واستعمارها عام (1213 هـ= 1798م)، وقد حاول نابليون أن يطبق في مصر ما أقرته الثورة الفرنسية من أفكار ونظم سياسية، وكان الحكم النيابي في طليعة الإجراءات التي حاول نابليون تطبيقها.
ويرى كثير من العلماء والدارسين أن هذا النوع من الحكم المتكئ في أصوله إلى الثورة الفرنسية هو بداية العلمانية في مصر؛ ومن ثم إلى معظم البلدان العربية، حيث تم تصريف الأمور وحكم الرعية بعيدًا عن الدين وتوجيه القرآن الكريم.
وقد لاحظ الجبرتي في كتابه "عجائب الآثار في التراجم والأخبار" ذلك عندما وصف الفرنسيين بأنهم "لا يتدينون". وهذه النظرة العلمانية أثرت في المجتمع المصري تأثيرًا واضحًا؛ حيث شجع الفرنسيون المصريين على البغاء، وسفور النساء وتبرجهن واختلاط الجنسين.
الثورة الفرنسية والصهيونية
ومما يتعلق بالثورة الفرنسية وحملة بونابرت على مصر وأثرهما في العالم العربي والإسلامي تبنيها للحركة الصهيونية ومساعدة اليهود في إنشاء وطن قومي في أرض الميعاد -على حد زعمهم- فقد وعد الثوار بإقامة كومنولث يهودي في فلسطين إن نجحت الحملة الفرنسية في احتلال مصر والشرق العربي.
يذكر الدكتور أمين عبد محمود مؤلف كتاب "مشاريع الاستيطان اليهودي منذ قيام الثورة الفرنسية حتى نهاية الحرب العالمية الأولى" أن الوعد الفرنسي بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين كان مقابل تقديم الممولين اليهود قروضًا مالية للحكومة الفرنسية التي كانت تمر آنذاك بضائقة مالية خانقة، والمساهمة في تمويل الحملة الفرنسية المتجهة صوب الشرق بقيادة بونابرت.